فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والقول في عطف: {والذين صبروا} وفي إعادة اسم الموصول كالقول في: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل}.
والصبر: من المحامد.
وتقدم في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر} في سورة البقرة [45].
والمراد الصبر على مشاق أفعال الخير ونصر الدين.
و{ابتغاء وجه ربهم} مفعول لأجله ل: {صبروا}.
والابتغاء: الطلب.
ومعنى ابتغاء وجه الله ابتغاء رضاه كأنه فعل فعلًا يطلبُ به إقباله عند لقائه، وتقدم في قوله تعالى: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} في آخر سورة البقرة [272].
والمعنى أنهم صبروا لأجل أن الصبر مأمور به من الله لا لغرض آخر كالرياء ليقال ما أصبره على الشدائد ولاتّقاء شماتة الأعداء.
والسر والعلانية تقدم وجه ذكرهما في قوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية} أواخر سورة البقرة [274].
والدرء: الدفع والطرد.
وهو هنا مستعار لإزالة أثر الشيء فيكون بعد حصول المدفُوع وقبلَ حصوله بأن يُعِدّ ما يمنع حصوله، فيصدق ذلك بأن يُتبع السيّئة إذا صدرت منه بفعل الحسنات فإن ذلك كطرد السيئة.
قال النبي: يا معاذ اتّق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمْحُها.
وخاصة فيما بينه وبين ربه.
ويصدق بأن لا يقابل من فعل معه سيّئة بمثله بل يقابل ذلك بالإحسان، قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [سورة فصلت: 34] بأن يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه وذلك فيما بين الأفراد وكذلك بين الجماعات إذ لم يفض إلى استمرار الضر.
قال تعالى في ذلك: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [سورة الأنفال: 3].
ويصدق بالعدول عن فعل السيئة بعد العزم فإن ذلك العدول حسنة دَرَأت السيّئة المعزوم عليه.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: من همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة.
فقد جمع {يدرءون} جميعَ هذه المعاني ولهذا لم يعقب بما يقتضي أن المراد معاملة المُسيء بالإحسان كما أُتبع في قوله: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن} في سورة فصلت [34].
وكما في قوله: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون} في سورة المؤمنون [96].
وجملة {أولئك لهم عقبى الدار} خبر عن: {الذين يوفون بعهد الله}.
ودل اسم الإشارة على أن المشار إليهم جديرون بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل ما وصف به المشار إليهم من الأوصاف، كما في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} في أول سورة البقرة [5].
{ولهم عقبى الدار} جملة خبرًا عن اسم الإشارة.
وقدم المجرور على المبتدأ للدلالة على القصر، أي لهم عقبى الدار لا للمتصفين بإضداد صفاتهم، فهو قصر إضافي.
والعقبى: العاقبة، وهي الشيء الذي يعقُب، أي يقع عقب شيء آخر.
وقد اشتهر استعمالها في آخرة الخير، قال تعالى: {والعاقبة للمتقين} [سورة القصص: 83].
ولذلك وقعت هنا في مقابلة ضدها في قوله: {ولهم سوء الدار} [سورة غافر: 52].
وأما قوله: {وعقبى الكافرين النار} [سورة الرعد: 35] فهو مشاكلة كما سيأتي في آخر السورة عند قوله: {وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار} [سورة الرعد: 42].
وانظر ما ذكرته في تفسير قوله تعالى: {ومن تكون له عاقبة الدار} في سورة القصص [37] فقد زدته بيانًا.
وإضافتها إلى {الدار} من إضفة الصفة إلى الموصوف.
والمعنى: لهم الدار العاقبة، أي الحسنة.
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ [23] سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [24]
{جنات عدن} بدل من: {عقبى الدار}.
والعَدْن: الاستقرار.
وتقدم في قوله: {ومساكن طيبة في جنات عدن} في سورة براءة [72].
وذكر {يدخلونها} لاستحضار الحالة البهيجة.
والجملة حال من: {جنات} أو من ضمير: {لهم عقبى الدار}، والواو في: {ومن صلح من آبائهم} واو المعية وذلك زيادة الإكرام بأن جعل أصولهم وفروعهم وأزواجهم المتأهلين لدخول الجنة لصلاحهم في الدرجة التي هم فيها؛ فمن كانت مرتبته دون مراتبهم لَحِق بهم، ومن كانت مرتبته فوق مراتبهم لحقُوا هم به، فلهم الفضل في الحالين.
وهذا كعكسه في قوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} [سورة الصافات: 22] الآية لأن مشاهدة عذاب الأقارب عذابٌ مضاعف.
وفي هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح أو خلف صالح أو زوج صالح ممن تحققت فيهم هذه الصلاة أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه، وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرى كما قال الله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} [سورة الطور: 21].
والآباء يشمل الأمهات على طريقة التغليب كما قالوا: الأبوين.
وجملة {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب} عطف على: {يدخلونها} فهي في موقع الحال.
وهذا من كرامتهم والتنويه بِهم، فإن تردد رسل الله عليهم مظهر من مظاهر إكرامه.
وذكر: {من كل باب} كناية عن كثرة غشيان الملائكة إياهم بحيث لا يخلو باب من أبواب بيوتهم لا تدخل منه ملائكةٌ.
ذلك أن هذا الدخول لما كان مجلبة مسرة كان كثيرًا في الأمكنة.
ويفهم منه أن ذلك كثير في الأزمنة فهو متكرر لأنهم ما دخلوا من كل باب إلا لأن كل باب مشغول بطائفة منهم، فكأنه قيل من كل باب في كل آننٍ.
وجملة: {سلام عليكم} مقول قول محذوف لأن هذا لا يكون إلا كلامًا من الداخلين.
وهذا تحية يقصد منها تأنيس أهل الجنة.
والباء في: {بما صبرتم} للسببية، وهي متعلقة بالكون المستفاد من المجرور وهو: {عليكم}.
والتقدير: نالكم هذا التكريم بالسلام بسبب صبركم.
ويجوز أن يكون متعلقًا بمحذوف مستفادٍ من المقام، أي هذا النعيم المشاهد بما صبرتم.
والمراد: الصبر على مشاق التكاليف وعلى ما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم.
وفرع على ذلك: {فنعم عقبى الدار} تفريع ثناء على حسن عاقبتهم.
والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة مقام الخطاب عليه.
والتقدير: فنعم عقبى الدار دارُ عُقْباكم.
وتقدم معنى: {عقبى الدار} آنفًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)}
والمؤمن هو مَنْ يعلم أن القرآن الحامل للمنهج هو الذي أنزله سبحانه على رسوله؛ ولا يمكن مقارنته بالكافر وهو الموصوف هنا من الحق سبحانه: {كَمَنْ هُوَ أعمى...} [الرعد: 19].
وجاء هنا ب علم وعمى؛ لأن الآيات الدالة على القدرة من المرئيات.
ويقول الحق سبحانه: {... إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} [الرعد: 19]
أي: أصحاب العقول القادرة على التدبُّر والتفكُّر والتمييز.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك عن أولي الألباب: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله...} والواحد من أولي الألباب ساعة آمن بالله؛ فهو يعلم أنه قد تعاهد مع الله عهدًا بألاَّ يعبد غيره؛ وألاَّ يخضع لغيره؛ وألاَّ يتقرَّب لغيره؛ وألاَّ ينظر أو ينتظر من غيره؛ وهذا هو العهد الأول الإيماني.
ويتفرّع من هذا العهد العقدي الأول كُلُّ عهد يُقطع سواء بالنسبة لله، أو بالنسبة لخَلْق الله؛ لأن الناشئ من عهد الله مثله مثل عهد الله؛ فإذا كنتَ قد آمنتَ بالله؛ فأنت تؤمن بالمنهج الذي أنزله على رسوله؛ وإذا أوفيتَ بالمنهج؛ تكون قد أوفيت بالعهد الأول.
ولذلك نجد كل التكليفات المهمة البارزة القوية في حياة المؤمنين نجد الحق سبحانه يأتي بها في صيغة البناء؛ فيما يسمى البناء للمجهول؛ مثل قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام...} [البقرة: 183].
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى...} [البقرة: 178] وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ...} [البقرة: 216] وكُلُّ التكليفات تأتي مَسْبوقة بكلمة: {كُتِب} والذي كتب هو الله؛ وسبحانه لم يُكلِّف إلا من آمن به؛ فساعةَ إعلان إيمانك بالله؛ هي ساعة تعاقدك مع الله على أن تُنفِّذ ما يُكلِّفك به.
وأنت حُرٌّ في أنْ تؤمن أو لا تؤمن؛ لكنك لحظةَ إيمانك بالله تدخل إلى الالتزام بما يُكلِّفك به، وتكون قد دخلت في كتابة التعاقد الإيماني بينك وبين الله.
ولذلك قال الحق سبحانه: {كُتِب} ولم يَقُلْ: كتبْتُ؛ لأن العهد بينك وبين الله يقتضي أن تدخلَ أنت شريكًا فيه، وهو سبحانه لم يُكلِّف إلا مَنْ آمن به.
وسبحانه هنا يقول: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق} [الرعد: 20]
أي: أن العهد الإيماني مُوثَّق بما أخذْتَه على نفسك من التزام. ويواصل سبحانه وَصْفَ هؤلاء بقوله: {والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله...} وأوَّل ما أمر به الله أَنْ يُوصَل هو صِلَة الرَّحم؛ أي: أن تَصل ما يربطك بهم نَسَبٌ. والمؤمن الحقٌّ إذا سَلْسَل الأنساب؛ فسيدخل كُلُّ المؤمنين في صِلَة الرَّحم؛ لأن كل المؤمنين رَحِم مُتداخِل؛ فإذا كان لك عَشْرة من المؤمنين تَصِلهم بحكم الرَّحِم؛ وكل مؤمن يَصل عشرة مثلك، انظر إلى تداخل الدوائر وانتظامها؛ ستجد أن كل المؤمنين يدخلون فيها.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في الحديث القدسي: «أنا الرحمن؛ خلقت الرحم، واشتققت لها اسمًا من اسمي؛ فمن وصلها وصلته؛ ومن قطعها قطعته».
وقد رَويْتُ من قَبْل قصةً عن معاوية رضي الله عنه؛ فقد جاء حاجبه ليعلن له أن رجلًا بالباب يقول: إنه أخوك يا أمير المؤمنين.
ولابد أن حاجبَ معاوية كان يعلم أن معاوية بن أبي سفيان لا إخوةَ له، لكنه لم يَشَأْ أنْ يتدخَّل فيما يقوله الرجل؛ وقال معاوية لحاجبه: ألاَ تعرف إخوتي؟ فقال الحاجب: هكذا يقول الرجل. فأذِنَ معاويةُ للرجل بالدخول؛ وسأله: أي إخوتي أنت؟ أجاب الرجل: أخوك في آدم. قال معاوية: رَحِم مقطوعة؛ والله لأكون أوَّلَ من يَصلها.
والتقى الفضيل بن عياض بجماعة لهم عنده حاجة؛ وقال لهم: من أين أنتم؟ قالوا: من خُراسان. قال: اتقوا الله، وكونوا من حيث شِئْتم.
وقد أمرنا سبحانه أن نَصِلَ الأهل أولًا؛ ثم الأقارب؛ ثم الدوائر الأبعد فالأبعد؛ ثم الجار، وكُلُّ ذلك لأنه سبحانه يريد الالتحام بين الخلق؛ ليستطرق النافع لغير النافع، والقادر لغير القادر، فهناك جارك وقريبك الفقير إنْ وصلْتَه وصلَك الله.
ولذلك يأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ومِنْ خلاله يأمر كل مؤمن برسالته: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المودة فِي القربى...} [الشورى: 23]
وقال بعض مَنْ سمعوا هذه الآية: قُرْباك أنت في قُرْباك.
وقال البعض الآخر: لا، القربى تكون في الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن قال في محمد صلى الله عليه وسلم: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ...} [الأحزاب: 6]
وهكذا تكون قرابة الرسول أولى لكل مؤمن من قرابته الخاصة.
يستمر قول الحق سبحانه في وصف أُولِي الألباب: {... وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد: 21]
والخشية تكون من الذي يمكن أن يُصيب بمكروه؛ ولذلك جعل الحق هنا الخشية منه سبحانه؛ أي: أنهم يخافون الله مالكهم وخالقهم ومُربِّيهم؛ خوف إجلال وتعظيم.
وجعل سبحانه المخاف من سوء العذاب؛ وأنت تقول: خِفْتُ زيدًا، وتقول: خِفْتُ المرض، ففيه شيء تخافه؛ وشيء يُوَقِع عليك ما تخافه.
وأولو الألباب يخافون سُوء حساب الحق سبحانه لهم؛ فيدعهم هذا الخوف على أَنْ يَصِلوا ما أمر به سبحانه أنْ يُوصَل، وأنْ يبتعدوا عن أي شيء يغضبه.
ونحن نعلم أن سوء الحساب يكون بالمناقشة واستيفاء العبد لكل حقوقه؛ فسبحانه مُنزَّه عن ظلم أحد، ولكن مَنْ يُناقش الحسابَ فهو مَنْ يَلْقى العذاب؛ ونعوذ بالله من ذلك، فلا أحد بقادر على أن يتحمل عذابَ الحق له.
ويواصل الحق سبحانه وَصْف أُولي الألباب فيقول: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ...} ونجد هذه الآية معطوفة على ما سبقها من صفات أولي الألباب الذين يتذكَّرون ويعرفون مَواطن الحق بعقولهم اهتداءً بالدليل؛ الذين يُوفون بالعهد الإيماني بمجرد إيمانهم بالله في كُلِّيات العقيدة الوحدانية، ومُقْتضيات التشريع الذي تأتي به تلك العقيدة.